أسبوع آخر، وموجة أخرى من القلق إزاء البنوك الإقليمية الأمريكية. لحسن الحظ انخفض مستوى الذعر إلى حد ما منذ أن اتضح أن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع تدعم النظام بسابقة، وإن لم تكن بموجب القانون. لكن المشكلة الآن هي مشكلة استنزاف، البنوك الضعيفة تخسر ودائعها وتشاهد تكاليف التمويل ترتفع، في حين تتعثر قروضها للعقارات التجارية والشركات المحفوفة بالمخاطر.
هذا يعني أن مزيدا من عمليات الاندماج يلوح في الأفق. ومع أن الاندماج مرحب به على المدى الطويل (لأن من غير المعقول أن لدى أمريكا أكثر من أربعة آلاف بنك)، إلا أنه قد يوجد صعوبات على المدى القصير.
لكن، في حين يراقب المستثمرون والسياسيون الأمريكيون تلك البنوك بقلق، هناك قطاع آخر يستحق منا الاهتمام أيضا: التأمين على الحياة.
في الأشهر الأخيرة، ظل التأمين بعيدا عن العناوين الرئيسة إلى حد كبير. لا عجب، فهذه الشركات تميل لأن تكون مملة لأنه يفترض أن تحتفظ بأصول والتزامات طويلة الأجل. وفقا للمنطق، ينبغي لها أن تربح في عالم ترتفع فيه أسعار الفائدة نظرا لامتلاكها محافظ كبيرة من السندات طويلة الأجل التي لا تحتاج عادة إلى حسابها بقيمة السوق، ما يعني إمكانية جنيها مكاسب من ارتفاع أسعار الفائدة دون تسجيل خسائر.
لكن ميزانياتها العمومية أصبحت أقل قابلية للتنبؤ بها في الوقت الحالي. ومع أن هذا ليس سببا يدعو المستثمرين للذعر، إلا أنه يسلط الضوء على مشكلة أكبر، تسبب عقد من أسعار الفائدة المنخفضة جدا في ظهور بيانات مضللة في جميع أنحاء العالم المالي، وقد يستغرق علاج الأمر وقتا طويلا. مشكلة الاستنزاف تتجاوز البنوك.
القضية المطروحة تصورها بعض الرسوم البيانية المدفونة في تقرير الاستقرار المالي الصادر أخيرا عن الاحتياطي الفيدرالي. تظهر هذه أن مجموعات التأمين كانت تحتفظ في نهاية 2021 بنحو 2.25 تريليون دولار من الأصول التي تعد محفوفة بالمخاطر وغير السائلة أو كليهما، بما فيها قروض العقارات التجارية أو قروض الشركات (أحدث البيانات المتاحة على ما يبدو). من حيث القيمة الإجمالية، هذا يعادل تقريبا ضعف المستوى الذي احتفظت به في 2008، ويمثل نحو ثلث أصولها.
هذا المستوى من الانكشاف لم يكن غير مسبوق. ومع أن نسبة الأصول الخطرة ارتفعت في الأعوام الأخيرة مع سعي شركات التأمين
المحموم على الحياة إلى كسب عوائد في عالم كان آنذاك منخفض الفوائد، إلا أنها كانت عند مستويات مماثلة قبل الأزمة المالية عام 2008.
لكن الأمر الملحوظ هو وجود اعتماد متزايد أيضا على ما يشير إليه الاحتياطي الفيدرالي بـ”التزامات غير تقليدية، بما فيها الأوراق المالية المدعومة باتفاقية التمويل، وبنوك قروض الإسكان الفيدرالي، والنقد المستلم من اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو)، ومعاملات إقراض الأوراق المالية”. وعادة ما “توفر هذه الصفقات لبعض المستثمرين الفرصة لسحب الأموال في غضون مهلة قصيرة”.
حجم هذا التفاوت بين الأصول والالتزامات غير واضح، نظرا لوجود فجوات كبيرة في البيانات، كما أشار صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير. مثلا، “الانكشافات الائتمانية الخاصة غير السائلة مثل التزامات الديون المضمونة قد تموه الرافعة المالية المضمنة في هذه المنتجات الاستثمارية المهيكلة”. بعبارات بسيطة، هذا يعني أن شركات التأمين قد تتأثر بخسائر الائتمان أكثر مما هو معتقد،
لكن النقطة الأساسية، كما يشير الفيدرالي، هي “على مدى العقد الماضي انخفاض سيولة أصول شركات التأمين على الحياة على نحو مطرد، وزيادة سيولة التزاماتها ببطء”. من شأن هذا أن يجعل من الصعب على شركات التأمين على الحياة تلبية أي ارتفاع مفاجئ في المطالبات أو بالأحرى عمليات السحب.
ربما هذا لا يهم، فعقود التأمين -في النهاية- أكثر ثباتا من الودائع المصرفية. وعندما عانى القطاع آخر مرة صدمة، خلال نوبة ذعر في بداية جائحة كورونا في 2020، تجنب الدخول في أزمة بتدبيره “زيادة هائلة بلغت 63.5 مليار دولار” من النقد بنجاح (وبهدوء)، كما يظهر بحث منفصل للاحتياطي الفيدرالي.
يعترف محللو الاحتياطي الفيدرالي بأن كيفية حدوث هذه الزيادة النقدية مبهمة، لأن “السجلات الرسمية صامتة” بشأن التفاصيل، لكن الدخل من صفقات المشتقات لعب دورا، في حين يبدو أن المصدر الرئيس كان قروضا من “نظام بنوك قروض الإسكان الفيدرالي”.
هذا مثير للاهتمام، لأنه يؤكد قضية حاسمة أخرى عادة ما يتم تجاهلها، وهي أن الكيان القوي شبه الحكومي هو “نظام بنوك قروض الإسكان الفيدرالي”، الذي يدعم أجزاء كثيرة من التمويل الأمريكي اليوم بدلا من البنوك الإقليمية، أو لنقتبس من الاحتياطي الفيدرالي مرة أخرى: “أصبحت شركات التأمين على الحياة أكثر اعتمادا على تمويل (نظام بنوك قروض الإسكان الفيدرالي)”، أمر مخيب لرأسمالية السوق الحرة الأمريكية.
يثير هذا الاعتماد أيضا تساؤلات حول المستقبل، خاصة إذا نضبت مصادر التمويل، أو إذا ضعفت الأصول الخطرة وغير السائلة، أو كليهما. يبدو هذا الاحتمال الأخير مرجحا جدا، نظرا لأن أسعار الفائدة المرتفعة تضر بالفعل بالعقارات التجارية وقروض الشركات المحفوفة بالمخاطر.
مرة أخرى، لا أقول إن هذا سبب للذعر. هذه ملحمة بطيئة الوتيرة. في حين يظهر تقرير حديث صادر عن شركة بارينجز أن “26 في المائة من شركات التأمين على الحياة، رقم قياسي، كانت تتخذ نهج أسعار الفائدة السلبية” في نهاية 2022 (بمعنى آخر، كان لديها خسائر ورقية على السندات)، لن تتحقق الخسائر ما لم تفلس الشركات.
لكن على الأقل، من الواضح أن الجهات التنظيمية تحتاج إلى بيانات أفضل ومعايير صارمة لمطابقة الأصول والالتزامات. وما دامت الرابطة الوطنية الأمريكية لمفوضي التأمين تحاول تطبيق ذلك على ما يبدو -مثلا بالحد من حيازات شركات التأمين من التزامات الديون المضمونة- فسيستغرق الأمر وقتا.
لهذا السبب “بيئة اليوم تجعل إدارة السيولة أمرا بالغ الأهمية”، كما أشارت “بارينجز”، خاصة أن “ارتفاع أسعار الفائدة يمكن أن يكون عاملا يسهم في إفلاس شركات التأمين”، بعبارة أخرى، ليست البنوك الإقليمية الأمريكية وحدها التي تخاطر بالوقوع ضحية لفقاعة الائتمان المنكمشة اليوم.